استرجاع الرائحة للذكريات

ماذا لو لم يكن لنا أنف أو حرمنا حاسة الشم؟
هل فكرت مرة في البحث عن إجابة لهذا السؤال؟ هل استوقفتك ذات يوم رائحة ما، ووجدت نفسك تتذكر موقفا أو حدثا بعينه، فتمتلئ حنينا لعمر مضى، أو مكان معين، أو شخص صادفته في رحلة الحياة، أو ذكريات مختلفة متداخلة قد أثارتها في نفسك تلك الرائحة؟

الارتباط الوثيق لذكرياتنا بروائح معينة

قد يصدف أن تتوقف أمام مخبز تشتم رائحة فطيرة طازجة فتحملك إلى عالم طفولتك، أو تأتيك رائحة عطرٍ يضعه أحد الأشخاص، فترجع بك الذاكرة إلى الوراء، أو تقرأ في كتاب فينقلك بعيدا، بعدها تغرق في موجة من الذكريات الحية التي تنقلك إلى أرشيف روحك فتجده ممتلئا بالغريب من الأحداث والأماكن والأشخاص.
في القرية التي ينتمي لها والدي كنا نلتقي وأبناء عمومتنا بإجازة الصيف، نجتمع وفي مخيلتنا ذكريات عدة أذكتها مواقفنا وأفعالنا وتفاعلنا معا، وتشاركنا في مواسم الحصاد، ولما كبرنا وتفرقت بنا البلاد، كنا نتقاسم سويا تلك الذكريات التي لا تزال تقتات عليها أرواحنا في سني الغربة.

ارتباط حاسة الشم بالذاكرة

يعتقد العلماء أن حاسة الشم والذاكرة مرتبطتان ارتباطا وثيقا، لأن تشريح الدماغ يسمح للإشارات الشمية بالوصول إلى الجهاز الحوفي بسرعة كبيرة، وهو جزء من الدماغ مسؤول عن استجاباتنا السلوكية والعاطفية.

في مقال لها على موقع “فيري ويل فاميلي” (Very Well Family)، تقول الكاتبة كلير جيليسي إن الذكريات المرتبطة بالروائح تميل إلى أن تكون أقدم، ويتم التفكير فيها بشكل أقل، لكن في الوقت نفسه تظل تلك الروائح قادرة على استدعاء الذكريات.

حاسة الشم والطفولة

وتعد ذكريات الطفولة هي الأكثر ارتباطا بالروائح، مثل روائح الطعام التي كانت تطهيها الأمهات، وذلك لأن “رائحة الذكريات السعيدة” لدينا ترتبط بصورة أكبر بسنوات العمر الأولى، في حين تنشأ الذكريات المرتبطة بالمعلومات اللفظية أو المرئية في مرحلة البلوغ المبكرة.

التأثير الكبير للروائح على حياتنا

ان للروائح تأثيرا كبيرا وفعالا على استرجاع الذكريات والتجارب السابقة، وعلى رد فعلنا العاطفي وتكوينه النفسي، وواحدة من الطرق التي نتعامل بها مع العالم وهي أشبه بالعملية التي تقوم بها الحواس الأخرى والتي تترجم من خلال المشاهد والأصوات واللمسات، وقد توقف العلماء عند ذلك محاولين تفسيره، فوجدوا أن هذا الأمر يرتبط بطريقة الدماغ في معالجة الروائح والذكريات المتعلقة بها، حيث تُنظم هذه الروائح من خلال البصلة الشمية التي تحلل الروائح في الدماغ، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبطين الجانبي للدماغ الذي يتعامل مع الذاكرة، من المثير للاهتمام أن المعلومات البصرية أو السمعية أو اللمسية لا تمر على هذه المناطق في الدماغ، كما أن الروائح هي التي تجعل هذه الأجزاء من الدماغ تحرك الذكريات والمشاعر.

أهمية حاسة الشم في حياتنا

في الواقع أننا لا نشعر بأهمية حاسة الشم كما ينبغي، ولا نقدرها أو نشعر بها حتى نفقدها، فهي تلعب دوراً مهماً في استرجاع الذكريات، حيث تجتمع الذكريات المرتبطة بالرائحة في ما يسمى بذاكرة الشم، وهذا الأمر يتطور بشكل طبيعي مع التطور في السن والتقدم في العمر، كما تذهب بعض الأبحاث الطبية إلى معرفة حالات الاكتئاب عند البعض من خلال اكتشاف ضعف حاسة الشم لديهم، وبذلك يمكن تمييز الكثير من الأمراض والاضطرابات العقلية من خلال قدرة الشم وقوة هذه الحاسة لدى الفرد.

ذاكرة الرائحة أقوى من ذاكرة الصوت

والروائح يمكن أن تنقلنا إلى ذكريات عاطفية من الماضي بشكل أكثر فعالية من الأصوات، فنتذكر الموقف برائحته العطرة رغم مرور سنوات عديدة، ونظل نتذكر طعم المشاعر التي احتشدت أرواحنا بها. نعم للذكريات رائحتها التي تختلف باختلاف المكان والزمان، بعضها نتمنى لو استطعنا حفظ عطرها فنستطيع استدعاءها وترك عبيرها يملأ أرواحنا، فتأخذنا الى عالم يلامس فيه هذا العطر الغامض أعماق الروح ليوقظ فينا الحنين للماضي البعيد فنعيشه مرات لا نهاية لها، ونرى كيف للروائح أن تعلَقَ بالذكريات فيغدو لها عبق يهيم في الروح نتنفسه ما دمنا أحياء.
ويبدو أن ارتباط الذاكرة العاطفية بالرائحة أقوى من التجارب الحسية الأخرى، ويرجع ذلك إلى قدرة الرائحة على الوصول إلى الهياكل الدماغية المركزية للنظام الشمي بالدماغ، والتي تتشارك مع نفس المنطقة المسؤولة عن تنظيم المشاعر والذكريات العاطفية.

اترك تعليقاً